ياسر عبد العزيز

روى لى أحد كبار رجال عالم المال والأعمال العرب أن لديه طريقة سهلة وبسيطة لتقصى الأحوال الاقتصادية للمجتمعات والدول التى يفكر فى الاستثمار فيها، ورغم أنه لم ينف أبدا اعتماده على التقارير الموثوقة، الصادرة عن جهات اقتصادية مُعتبرة، لتعزيز مقارباته الاستثمارية، فإنه أظهر تعويلا كبيرا على «طريقته الخاصة» تلك.

وبحسب هذا الاقتصادى الكبير، فإن معاينة الإعلانات السائدة فى مجتمع أو دولة ما بعناية، قد تكون كافية لتكوين فكرة واضحة عن الأداء الاقتصادى العمومى، فإذا كانت معظم الإعلانات تتعلق بشفرات الحلاقة، والفوط الصحية، ورقائق البطاطس، وأنظمة استهلاك الهاتف المحمول، والمياه الغازية، ومنتجات الدراما، فإن هذا الاقتصاد فقير ومضمحل، ومجتمعه يعانى.

أما إذا كانت الإعلانات تتعلق بالصناعات الضخمة، والمصارف الكبيرة، والتطوير العقارى، والسيارات الفارهة، والشركات المُسجلة فى البورصة، فإن هذا المجتمع ينمو، واقتصاد الدولة يزدهر، والطلب يتسع، والفرص الاستثمارية حقيقية وواعدة.

سيفسر لنا هذا الكثير مما نراه حولنا من إعلانات، هى فى جوهرها انعكاس لحالتنا الاقتصادية وتعبير عن شواغلنا فى الإنتاج والاستهلاك.

سنأخذ هذه الصيغة، التى أجدها من جانبى منطقية وقادرة على صنع الدلالة، وسنحاول تطبيقها على مجال صناعة الأخبار، انطلاقا من فرضية تحظى بوجاهة كبيرة، ومفادها أن ما نتداوله من أخبار، ونحرص على فهمه والإحاطة به، إنما يعكس شواغلنا العمومية، ويؤطر علاقتنا بالحاضر والمستقبل.

وفى هذا الصدد، سنجد أن أحد أهم تجليات واقعنا الإخبارى الراهن تتجسد فى اختراق خطير أمكننا تحقيقه، إذ يبدو أننا نجحنا فى إعادة تعريف الأخبار.

على مدى أكثر من 150 عاما، اجتهد صحفيون، ومفكرون، وباحثون مجيدون فى محاولة تعريف الخبر الصحفى، وقد أثمر هذا الاجتهاد مئات التعريفات لهذا الفن الصحفى الأساسى، ولأن استعراض هذه التعريفات، أو بعضها عمل، يحتاج كتبا ورسائل أكاديمية ومقالات مطولة، فإننى سأكتفى فى هذا الحيز المحدود بإيراد عناصر مشتركة أجمع عليها هؤلاء المجتهدون فى محاولتهم لتعريف الخبر.

وضمن هذا الإجماع، الذى أقرته معظم الأكاديميات وبيوت الخبرة الصحفية، ستبرز عناصر، مثل أن الخبر تقرير يتعلق بشىء حدث، أو يحدث، بالفعل، وأنه يتناول معلومات و«حقائق» قابلة للإثبات، وأنه «آنى»، ويهم المجتمع أو قطاعا منه، وأنه يعكس تغيرا حاصلا، ويوضح تأثيرا ملموسا، ويعالج شؤونا واقعية حتى لو كانت ترفيهية ومُسلية.

وعندما اجتهد الباحثون لتقصى الفئات التى تتوزع عليها الأخبار، وجدوا أن أهمها يتعلق بالمصالح القومية العليا، ثم الموت والحياة، فلقمة العيش، وأحوال السكان، وأخيرا الجوانب الترفيهية والإنسانية فى الحياة.

فإذا سعى كل من تسنى له قراءة هذه السطور إلى استعراض ما ينشره قطاع مؤثر من وسائل الإعلام من أخبار حاليا، لوجد أننا بصدد محاولة دائبة لإعادة تعريف الأخبار.

وفى تلك المحاولة، ستنصرف المنتجات الخبرية، فى قطاع كبير منها، إلى معالجة الشؤون الترفيهية.

وفى اختراق آخر، سيظهر أن الأخبار تفض علاقتها بالواقع باطراد وشغف، حيث سيجرى الحديث عن أبطال المسلسلات، التى تحظى بمتابعة الجمهور واهتمامه، كما لو أنهم أشخاص حقيقيون، وسيتم تتبع تصرفاتهم بعناية، وتقصى ما يقع عليهم من أحوال الزمان؛ على طريقة: «إخلاء سبيل جعفر العمدة (محمد رمضان) من مقر النيابة»، أو «حنان (منى زكى) تكسب من بيع الجمبرى»، و«صابر المداح (حمادة هلال) يكشف هوية الجن العاشق الذى حملت منه أمينة».

ليس هذا فقط، لكن تقصى الأجندة الإخبارية لقطاع مؤثر من وسائل الإعلام الوطنية، سيسفر عن ملمح آخر مُهم، فالأخبار الأكثر قراءة ستكون ميدانا للمنافسة بين أبطال «اللاواقع» و«اللآنى» الدراميين من جهة، وأسعار الخضروات واللحوم من جهة ثانية، وصراعات كرة القدم المأفونة من جهة ثالثة.

وتلك حالة إخبارية لا تعكس فقط الجور والافتئات على انشغالات أخرى أهم وأوجب، لكنها تعكس أيضا الاختراق الكبير الذى نحققه الآن بشغف شديد، أى: إعادة تعريف الأخبار.

وكما كان هذا الاقتصادى الكبير يعتقد أن الإعلانات تقرأ اقتصاد الدولة وتكشف مزاياه ومثالبه، فإن الأخبار تفعل الشىء ذاته، وهو أمر يقرع أجراس الإنذار، وهو أمر يستوجب وقفة ومراجعة.

* نقلا عن ” المصري اليوم “